فدريكو جارسيا لوركا
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
فدريكو جارثيا لوركا (بالإسبانية: Federico García Lorca) (و. 5 يونيو 1898 - 19 أغسطس 1936) شاعر إسباني معاصر. بالإضافة إلى الشعر كان رساما وعازف بيانو ومؤلفا موسيقيا. كان أحد أفراد ما عرف باسم الجيل '27. اغتيل من قبل الثوار الوطنيين وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في بدايات الحرب الأهلية الإسبانية. يعده البعض أحد أهم أدباء القرن العشرين. فيديريكو غارثيا لوركا Federico García Lorca (1898-1936)
لوركا في نيويورك ينظم مرثية الإنسان
ما بين عامي 1929 و1930, عاش فيديريكو غارثيا لوركا عشرة أشهر في نيويورك, وفكر أن يتسجل في دروس اللغة الإنكليزية, على رغم انه لم يكن يميل إليها, ولم يدرسها بالتالي, فقضى معظم وقته بين النقاد والشعراء الأسبان الموجودين في المدينة - مثل فيديريكو دي اونيس, داماسو آلونسو, انخيل دل ريو ومصارع الثيران ايناثيو سانتس مينمياس - وبين زيارة المتاحف, والذهاب الى دور السينما, والمسارح, والاستماع في الصالات الى موسيقى الجاز, فحضنت روحه الصرخة المحمومة لزنجي حي هارلم, رأى فيه طفل غرناطة الكبير تنقيلاً أو تغير الموضع لإحياء الغجر - الموريسكيين الغرناطية, التي استوقفه بؤسها, فحوله ألمها الثوراني العتيق, إلى واحد من شعراء الإنسانية.
لم تكن صرخة القهر الزنجي وحدها ما اثر في روح لوركا النقية الشفافة, ليجعل من ملك هارلم - الصورة الأخرى للغجري - الموريسكي - رمزاً لكل المضطهدين, القابعين في أسفل درجات السلم الاجتماعي, في مدينة الأسمنت وناطحات السحاب, وعالم الحضارة المادية, التي لا تُعرف لها جذور, والتي حولت انسانها الى رقم تافه, تحركه الاصابع بآلية في مكاتب الزجاج الخاوية.
لم تكن صرخة القهر الزنجي وحدها, هي ما دفعه ليسترجع صورة المضطهدين الغرناطيين - ومعهم كل الآخرين الذين خضعوا للقهر في محاكم التفتيش, وفي حملات نظافة الدم - في مجتمع لا انساني وعدو, بعد انهيار الإسلام السياسي في آخر معاقله عام 1492. لقد كانت كل تفاصيل الحياة اليومية الخاوية, التي نسجتها الحضارة المادية في الولايات المتحدة, تدفعه الى هاوية الرعب والعدم, فيطلق من خلال سقوطه وتمزف روحه الشفافة, صرخة وجع واعتراض على اغتيال الانسانية, ويملأه الحنين الى تلك الأرض الاندلسية البعيدة - القريبة, تظل حضارتها الروحانية النقيض الأجمل والأروع لمدينة الاسمنت والدخان, لمدينة الآلة المسننة المتعطشة لامتصاص عرق الانسان ودمه, ولدماء كل الحيوانات, والعودة الأولى لطهارة الغابة البكر وجمالها. ويولد من أعماق جحيم الحياة في نيويورك, ديوان عظيم, يوازي في أهميته القصائد الغجرية اللوركية - تُرجمت الى خمسين لغة بما فيها العربية - لأنه صداها الآخر والأبعد, وإن كان تعبيراً خاصاً عن مرحلة مختلفة في النتاج اللوركي الشعري النبيل, تغيرت خلالها احاسيسه ورؤاه ولغته, نتيجة لتمزق اعماقه من قساوة ومرارة التجربة الحياتية من عالم مادي حتى الجذور, معبوده المال ولا علاقة له بقيم الحياة الكبرى, وصار منسلخاً عن كل ما هو انساني, وكان منه طفل غرناطة الكبير, شاهداً على عذا الانسان الضعيف وقهره والمضطهد في مسرح الوجود, بعد ان كان تخيله العظيم, واحساسه المرهف قد دفعاه ليصور في ابيات خالدة معاناة الغجر الموريسكيين في أرض الأندلس, وقد سحقوا خلال حروب الاسترداد الاسبانية وبعدها.
يولد ديوان "شاعر في نيويورك" ثمرة للتصادم العنيف بين حضارتين نقيضتين - هذا ما يؤكده فرنسيسكو لوركا, الأخ الأصغر لمشعوذ الأندلس في كتابه "فيديريكو وعالمه - : الروحانية الغرناطية المسلمة بشكل واضح لا يقبل الجدل, وبين حضارة المادة الصرف, التي تلغي الانسان وتشيِّؤه, وتحوله الى رقم زائد أو ناقص في ميزان الربح المادي.
ان الروحانية الغرناطية تتمثل باعتراف لوركا ذاته في نثره الأول في قصر الحمراء العجيب, وحدائق الخلفاء, ونوافير المياه, وفي جمالية الأشياء الصغيرة النابضة بالحياة, وكل ذلك يبقى تعبيراً مؤثراً لابداع الانسان في ظل حضارة راقية, هدفها اغناء الانسانية, ووجد كل فرد مكانه فيها, "حضارة رائعة, نسيجها شعر وعلم فلك, فن عمارة ورقة فريدين في العالم" كما صرح فيديريكو غارثيا لوركا لجريدة "إل سول" المدريدية, في العاشر من حزيران (يونيو) قبيل اغتياله في الثامن عشر من آب (أغسطس) لعام 1936, على ايدي الفاشية.
في نيويورك, كان شيئاً ما مختلفاً في أعماقه - هو الروحانية الغرناطية - يجعل مستحيلاً تواصله مع هذا العالم المادي البارد, المشحون بالخواء والعدم, فيرفض جملة وتفصيلاً زيف مدينة عملاقة حديثة بلا روح - جعلها رمزاً لكل المدن التي يُستغل فيها الانسان - تسود فيها اللامبالاة القاتلة في مواجهة كل ما هو انساني, وتبول جموعها حول صرخة وجع, وتخدش امواتها الأرض بالأظافر, وتتلذذ هي لرؤية الدم يراق نقطة نقطة بين الدواليب المسننة لآلاتها العمياء, تدفع الانسان الى هاوية الفراغ والعدم.
اواه يا اميركا الشمالية المتوحشة! اواه يا وقحة! يا متوحشة ممدودة عند حدود الثلج
و:
اي هارلم مقنعة,
اي هارلم المهددة من حشد ثياب بلا رؤوس.
واي وول ستريت...
اواه! اي! اي! اي!
في نيويورك يطلق فيديريكو غارثيا لوركا, وهو يرثي الانسانية الذبيحة, صرخات وجع تفتت القلب, مشحونة بايحائية نادرة, يبدو معها للقارئ في بعض الاحيان ان صداها يتردد ضاجاً ومؤلماً في اعماقه, كما في أبيات القصائد. لم يحتمل فيديريكو غارثيا لوركا شراسة المدينة - الجحيم, العدائية والمرعبة, التي حددت ماديتها البشعة شراسة العلاقات بين البشر, وابتعادهم النهائي عن الطبيعة البكر, عن الانسانية, وعن أحاسيس نبيلة لا يمكن للمرء ان يعيش من دونها: الرحمة والحب والسلام: لقد حولت نيويورك انسانها الى رقم زائد أو ناقص في دفاتر مكاتب ناطحات السحاب الزجاجية, وحشرته في زاوية الغربة والفردية والضياع.
في المدينة - الجحيم, يشعر لوركا بالاختناق في عالم الآلة, ويحس ان الأرض تميد تحت قدميه, وهو يقف على حافة هاوية العدم البائس والفراغ القاتل الذي احدثه غياب الانسانية, فتغيرت الوانه الاندلسية الزاهية - استبدل بالأسود والرمادي الداكن الوان الرند والياسمين - وظهرت في ابياته مفردات لم يستعملها قبلاً - يا اميركا الشمالية المتوحشة! يا وقحة - وميزت رؤاه تحولات غير معقولة, وغريبة الى حد, فصارت النجوم بقراً, وتحولت العصافير الى ثيران, وسمك الكريستال صار يشبه اقداماً صغيرة حمراً لنساء. في نيويورك ضيعت كل الموجودات هويتها الحقيقية, وبات الجو العام في مدينة التدمير الانساني يوحي بالهذيان... بات كابوساً في اليقظة وفي المنام, فغرقت فيه الفراشات (رمز الفكر) في المحابر السود, وكانت أرقام الضرب والحسابات, تطعن فيه مثل سكين, وظهرت على مسرحه حيوانات صغيرة مقطوعة الرأس, وحمامات عالقة في القناطر الصغيرة, وكل ذلك في الوقت الذي يراقب فيه المصرفي مضغط قياس السوائل والابخرة.
آي وول ستريت!
في نيويورك يبقى وول ستريت رمزاً مرعباً لانهيار الانسانية وقيمها الكبرى, وكل شيء فيه رخيص وتافه وخاو, كل شيء فيه يشترى ويباع, حتى عرق البؤساء وصحتهم, كما انه مسرح قبيح للرقص, فيه يرقص القناع الأسود بين أعمدة دم وارقام, بين اعاصير الذهب وأنين العاطلين من العمل في الظلمات (قصيدة رقصة الموت).
في المدينة المحتضرة, يشعر فيديريكو غارثيا لوركا, ابن الروحانية الغرناطية, بالقلق الروحي العميق, بالتشتت والضياع, فيصرخ بأعلى صوته مشهراً بهذه الحضارة المادية الصرفة, المجردة من الانسانية, التي حولت ابناءها الى حشود بلا رؤوس, يستيقظون في فجر أسود, يعرفون انه لا يحمل اليهم اي أمل, ويتجهون بالتالي الى الشوارع الميتة, او الى المترو, ليصلوا الى مكاتب الزجاج والاسمنت الباردة, ليغرقوا انسانيتهم في وحل الارقام والقوانين.
قهر. رفض. قلق. وحدة. غربة. ضآلة. تشوش فكر. ضياع. مرارة. غضب: هذا ما يشعر به فيديريكو غارثيا لوركا في مواجهة المدينة العدائية, مركز الثقل في سحق العالم الذي تتهدده حضارة الآلة الشيطانية, التي يشهر بزيفها وشراستها, في واحد من أروع دواوينه - قبل ان تسترجعه من جحيمه الروحانية الغرناطية, لينظم ديوان التماريت - "شاعر في نيويورك, ويسألها أين جذورها؟ أين روحها؟ في الآلة؟ في الاحصاءات (قصيدة مكتب واتهام).
احتضار. احتضار. حلم. تخمر. حلم.
هذا هو العالم يا صديقي, احتضار. احتضار.
آي عالم! هارلم! هارلم!
ليس هناك قلق يشبه عينيك المضطهدتين
ودمك الذي يرتعش في كسوف غامض...
عندما يصور غارثيا لوركا القلق في اعماق الزنوج - العينان في شعر لوركا هما مرآة الاعماق - الوجودي في نيويورك الاسمنت.