العادل كتبغا
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
العادل زين الدين كتبغا المنصور ( - 702هـ/1302م) عاشر سلطان من المماليك البحرية Bahri dynasty. مغولي اُسِر في معركة، أول سلطان (11 محرم 694هـ - 11 محرم 694هـ/1 ديسمبر 1294م) يتنازل عن السلطة.
إذا كان مألوفًا اليوم أن يتداول الزعماء السلطة، ويترك من كان بيده الأمر والكلمة النافذة السلطة والحكم إلى غيره طائعًا مختارًا، فإن هذا لم يكن معروفًا أو معتادًا في القدم، وكان السلاطين حين ينزلون عن عروشهم إما يقتلون أو يحبسون أو ينفون في مكان بعيد، ولهذا ينفرد السلطان "كتبغا" بسابقة نادرة في العصر المملوكي، فبعد أن صار سلطانًا ذا شأن وجاه، يخطب وده الأمراء، وترهب سلطته القادة والزعماء، رضى أن يترك ذلك كله مختارًا، ويعود أميرًا صغيرًا، يأتمر بمن كانوا يومًا رهن إشارته وتحت سلطانه.
فهرست |
[تحرير] من الأسر إلى الإمارة:
في معركة حمص الأولى التي كانت بين المماليك والمغول وقع كتبغا وهو حدث صغير أسيرًا يد المسلمين الذين ألحقوا بالمغول هزيمة ساحقة في (5 محرم 659هـ = ديسمبر 1260م) وذلك في عهد السلطان الظاهر بيبرس. ثم التحق "كتبغا" بخدمة الأمير "قلاوون" فتعهده بالتربية والتهذيب، وتعلم فنون الحرب والقتال، ولما آلت السلطة إلى قلاوون سنة (679هـ = 1279م) رقاه في وظائف الدولة، حتى صار من كبار الأمراء وظل محتفظًا بمكانته في عهد الأشرف خليل بن قلاوون.
[تحرير] تحفز على السلطة:
لم تطل فترة حكم الأشرف خليل، إذ لم يكن بينه وبين أمرائه ود صادق، وحلت الوحشة والتربص محل الحب والتقدير، فسرعان ما دبروا له مؤامرة، وتخلصوا منه بالقتل، وتولى أخوه الناصر محمد السلطنة بمساعدة "كتبغا" في (16 محرم 693هـ = 1293م)؛ وكان الناصر حين تولى الحكم له من العمر تسع سنوات، فاختير الأمير كتبغا نائبًا للسلطنة. وأصبح هو القائم فعلاً بجميع أمور الدولة وتسيير شئونها، وليس للناصر من السلطة إلا الاسم.
وبعد أن أحكم "كتبغا" قبضته على البلاد وتخلص من منافسيه، بدأ يتطلع إلى الانفراد بالسلطة والاستئثار بالحكم، فلجأ إلى الخليفة العباسي لإقناعه بعزل السلطان وعدم أهليته لممارسة الحكم لصغر سنه، واتجه إلى القضاة والأمراء يحدثهم بأن البلاد تحتاج إلى رجل قوي ناضج الفكر، خبير بالحكم لا إلى صبي يلهو ويلعب. فاقتنع الخليفة بما ساقه كتبغا من حجج، ووافق القضاة والأمراء على ذلك، فأقروا جميعًا خلع "الناصر محمد" وتولية "كتبغا" مكانه، وتم ذلك في (11 محرم/694هـ).
[تحرير] سوء أحوال البلاد:
غير أن السلطان لم يكن موفقًا في مدة سلطنته، فقد أصيبت البلاد عقب توليه بالغلاء والوباء، وبلغ من شدة ما أصاب البلاد من الجدب والقحط أن نفدت الغلال وعلف الدواب من خزائن السلطان نفسه، وساعد على ذلك انخفاض ماء النيل، فعم الجدب معظم الأراضي، وقلت المحاصيل الزراعية، حتى اشتد ضجيج الناس في الأسواق من شدة الغلاء، وأكل بعضهم الميتة من الكلاب والمواشي.
وفتك الوباء بالناس، فكان يخرج من كل باب من أبواب القاهرة ما يزيد عن سبعمائة ميت، وعجز الناس عن تكفينهم وغسلهم، فصاروا يدفنونهم بغير غسيل أو كفن، وبلغ من كثرة الموتى وقلة من يحفر لهم أن عملت حفائر كبيرة، ألقيت فيها الأموات من رجال ونساء وصبيان، حتى تمتلئ الحفرة ثم تطم بالتراب.
وحاول السلطان "كتبغا" أن يعالج هذه الكوارث التي ألمت بالناس بقدر ما يستطيع فأحضر من الشام ما استطاع جمعه من القمح والغلال؛ لتوزيعه على الفقراء والمحتاجين، لكن ذلك لم يف باحتياجات الناس، وبذل الأطباء جهدهم في محاصرة الوباء والقضاء عليه، لكنه كان أقوى من إمكاناتهم، فأعجزهم وقفه ومكافحته.
لذلك لم يكن مستغربًا أن يكره الناس حكم "كتبغا"، ويتمنون ذهابه، وزاد من كراهية الناس له ترحيبه بطائفة من المغول الذين قدموا القاهرة سنة (695هـ = 1295م) فرارًا من ملكهم "غازان" بعد اعتناقه الإسلام، وكانوا نحو عشرة آلاف، فأكرم السلطان وفادتهم، لأنهم من بني جنسه، على الرغم من القحط الذي عم البلاد، وأعطى بعضهم لقب الإمارة وعزم على اتخاذهم عونًا له ضد سائر المماليك، وقد أثار هذا العمل بغض الناس لكتبغا وحقد الأمراء عليه، وبخاصة حين منحهم حرية ممارسة شعائرهم الوثنية وكان معظمهم لم يسلم بعد، ونهى عن التعرض لهم.
وزاد من حنق الناس أن كتبغا منح أميرين من خاصته بعض الامتيازات، فأساءا استعمالها، وتحكما في أمور الدولة، وظلما الرعية، وحرضاه على التخلص من الأمير "حسام الدين لاجين" نائب السلطنة أقوى أمراء المماليك وأعظمهم نفوذًا.
غير أن لاجين كان أكثر دهاء وأسرع حركة، فبدأ يعد العدة والوسيلة التي يزيل بها كتبغا من طريقه، وأعماه حرصه على تولي السلطة كل معاني الوفاء والإخلاص التي كانت تجمع بينهما، فانتهز فرصة خروج السلطان "كتبغا" إلى الشام، لإقرار الأمن فيها وتنظيم شئونها، ودبر مؤامرة مع زملائه لقتل السلطان والجلوس مكانه، وهو في طريق عودته من دمشق، لكن المؤامرة لم تنجح في التخلص من السلطان الذي فر إلى دمشق، حيث جدد له نائب السلطنة بالشام يمين الطاعة له.
بعد فشل "لاجين" في قتل غريمه، استولى على دهليز السلطان وخزائنه وأسلحته، وانضم إليه حرسه ورجال جيشه دون مقاومة، ثم جمع لاجين الأمراء وهو في المكان الذي حاول فيه قتل السلطان، وشاورهم في الأمر، فوافقوا على اختياره سلطانًا، بشرط أن لا ينفرد براي دونهم، ولا يترك مماليكه يعبثون بمصالح الناس، ولا يقدم أحدًا منهم عليهم، فأجابهم إلى مطالبهم وحلف على ذلك، وكان ذلك في (المحرم 696هـ = 1297م)، وتلقب بعد وصوله إلى القلعة بالسلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين.
[تحرير] السلطان كتبغا أميرًا
لم تنته فصول القصة بولاية لاجين السلطنة، لأن السلطان كتبغا كان مقيمًا بقلعة دمشق لا يخرج منها ولا يعلم بتطورات الأحداث في مصر، ثم لم تلبث أن جاءت الأخبار من القاهرة، فانفض أهل الشام عن كتبغا، ووصلت المراسيم في (ربيع الأول 696هـ = 1296م) إلى قضاة دمشق وأمرائها من السلطان الجديد بإحضار كتبغا، وإبلاغه أنه معزول عن السلطنة.
لم يعارض كتبغا قرار العزل، ولم يحاول جمع الأنصار لاسترداد السلطنة، إيثارًا للسلامة وحقنًا للدماء، وكان في استطاعته أن يفعل ذلك بعد قدومه دمشق، لكنه لم يفعل، بل رضى أن يكون تابعًا للسلطان الجديد، وحلف على الطاعة له، وأقسم أمام مبعوث السلطان أنه يرضى بالمكان الذي عينه السلطان، وأنه تحت الطاعة، وأنه خلع نفسه من الملك، ولم يلبث أن جاءته رسالة من السلطان لاجين يأمره بالتوجه إلى مدينة "صرخد" ليتولى أمرها، فذهب إليها معززًا مكرمًا، ومعه أولاده ومماليكه، وفي عصر سلطنة "الناصر محمد" الثانية، نقل إلى ولاية "حماه"، وظل فيها، حتى توفي في سنة (702هـ/1302م).
ونحن اليوم نرى فيما فعله كتبغا أمرًا محمودًا؛ درءًا للفتنة، وتقديمًا للمصلحة، وتأكيدًا على أن الإنسان يستطيع أن يخدم أمته وهو في أعلى المناصب وأسماها كما يستطيع أن يفعل ذلك وهو في أقل المناصب شأنًا، وهو ما فعله "كتبغا" في أول سابقة في العصر المملوكي حين قبل أن يكون أميرًا صغيرًا على بلدة صغيرة بعد أن كان سلطانًا ملء الأسماع والأبصار.